أثارت حلقة من مسلسل الاختيار جدالاً بين المصريين على مواقع التواصل، فحتى قبل انتهاء تلك الحلقة أصبح لدينا فريقين رئيسيين، كل فريق يرمي الآخر بالاتهامات والتوصيفات.
فهذا الفريق يقول: رحمة الله على الشهيد المنسي، وعلى شهداء الوطن من الجيش والشرطة، ثم يصب غضبه على مصريين آخرين بجمل من عينة هذا هو فعلكم يا عملاء يا خونة يا إرهابيين يا أعداء الوطن!.. تحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر!
أما ذاك الفريق فيتعجب مما وصفه بـ"حفلات الأورجازم الوطني!"، مؤكداً أن هؤلاء المحتفلين بالشهيد والمحتفين ببطولات الخدمة العسكرية في الجيش المصري، ما هم إلا من المنتمين إلى فئة "كبارات البلد"، أي أصحاب الواسطة والذي ربما يغلب عليهم التهرب من التجنيد باستخدام "الواسطة" هم وأبنائهم ومعارفهم، وعلى أقل تقدير تكون خدمتهم عبارة عن أجازات متتالية في أماكن عسكرية بالعاصمة والمدن الكبرى أو قريبة منها، أو حتى بعض المحتفين من طبقات الشعب الأخرى، والذي منهم من أدى الخدمة العسكرية ولكنه كان يعد الدقائق قبل الساعات للخلاص منها، أو أولئك الذين يبتهجون ويحتفلون ويحمدون الله لحصولهم على إعفاء من خدمة وطنهم!
ولكن.. كان هناك مواطنين يلعبون في منطقة أخرى.. ربما تكون أكثر عمقاً من أصدقائهم بالأعلى، وهي منطقة التاريخ، وكتابة التاريخ، فهم يرون أن مسلسل الاختيار، وأشباهه من الأعمال، تُزيف التاريخ.
بداية، فإن ما يتحدث عنه مسلسل الاختيار، وما يتناوله إعلام النظام في مصر خلال الفترة الحالية، هو الحاضر الذي نحياه وليس تاريخ، صراحة لا أعرف هل ما حدث خلال 10 سنوات سابقة، وغالب من عاصروه أحياء، هل يقال عنه تاريخ؟! لدرجة إنه بات يخضع لعمليات التزوير والتزييف، أم أننا وصلنا لمرحلة أصعب.. وهي تزييف الحاضر!
الجدل حول التاريخ، تسبب في انتشار تلك المقولة وهي "التاريخ ضمن الغنايم وبيكتبه الكسبان"، ولن أدخل في جدال حول مدى صحة المقولة، الواقعية بالمناسبة، ولكني أسأل.. وأين "الخسران"؟
لماذا لا يكتب هو الآخر التاريخ كما حدث معه ورآه، خاصة في عالمنا المعاصر، حيث يتوفر للإنسان العادي منصات مختلفة يسهل عليه الكتابة والتدوين والنشر فيها، وهي متاحة له، منها فيسبوك وتوتير ويوتيوب والمدونات والمواقع الإلكترونية.
ما سبق عمل ممكن أن يؤديه أي شخص بمفرده، أن يكتب شهادته وروايته، والمعنيين أكثر بهذه القضية الهامة، هم أولئك الأفراد الذين كانوا في مواقع المسئولية أو قريبين منها، أو في ما يسمى "مطابخ الاحداث"، أو من كانوا شهداء على العديد من الوقائع.
لدينا نموذج واضح ربما يدلل على ما أريد أن أقول، وهو المعركة الجانبية التي دارت بين الرئيس الراحل أنور السادات، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق الفريق سعد الدين الشاذلي عليه رحمة الله، فعلى الرغم من أن السادات خطف كل الأضواء، ونال جائزة نوبل، ولقب ببطل الحرب والسلام، ووقف أمام الجميع في مجلس الشعب يقيم محاكمة مصغرة يبرأ فيها نفسه من أي تقصير في حرب أكتوبر سيما الثغرة، وليؤكد على أن جنود وضباط الجيش الثالث الميداني المحاصرين من قبل جيش الاحتلال كانوا في أفضل حال.
السادات في هذه الحالة يعد نموذجاً يحتذى به في "الكسبان" والتاريخ كله تحت جرة قلم من يده، يسانده الساسة والإعلام والصحافة والدراما والسينما والمواطنين، وسط زخم دولي ودعم عالمي، وفي المقابل كان الشاذلي يخفت نجمه وخرج من القوات المسلحة، وفي خلال بضعة أشهر من حرب أكتوبر، أخرج من البلاد ليعمل سفيراً لمصر في لندن! ليصل به الحال في حال أشبه بالنفي، وبعدما عاد، حاكمه مبارك وسجنه 3 سنوات!
رغم كل هذا، رغم أن التاريخ كان من ضمن "غنايم" السادات وخَلفه، إلا أن مذكرات سعد الدين الشاذلي، أو ما كتبه فقط من مذكراته، أصبحت مرجعاً لكثيرين، وأوضحت أمور عديدة، واعتبرها البعض دليل إدانة يكشف تقصير السادات وقلة حيلة الدفاع في حرب أكتوبر، والتي كان من الممكن حال تفاديها أن تحقق الحرب ضعف ما حققته لمصر، هذا كله في ظل أنها تعتبر مذكرات شخصية.
أظن قيمة أن يكتب "الفرد" ما مر به من أحداث ويسجلها قد ظهرت أهميتها، ولكن هذا الدور الفردي وعلى أهميته، لا يعفي الجهات والمؤسسات التي تصدرت العمل العام لعقود من مسئوليتها في كتابة التاريخ، ورواية ما حدث، وإن حالة التغاضي عن ذكر ما حدث أي كانت داوفعهم وأسبابهم، وتجاهل تسجيل ما يحدث، أمر سلبي لابد أن نرفضه.
إن ما حدث في فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تناولته عدة أفلام مصرية، منها التي مجدت في عبد الناصر وحقبته، ومنها لاحقاً التي ركزت على الانتهاكات والتعذيب والقتل الذي حدث في عهده، أفلام كلها خرجت من نفس الجانب، لكننا لم نر توثيقاً تاريخياً من جانب من تعرضوا لتلك الانتهاكات في عهد عبد الناصر، وعلى رأسهم جماعة "الإخوان المسلمون"، الأكثر تعرضاً للقمع على مدار تاريخها، والأكثر تجاهلاً أن تظهر حقيقة ما حدث معها!
لدينا حدث غاية في الأهمية والخطورة، وهو ثورة يناير وما حدث في الأسابيع القليلة السابقة واللاحقة لها، حتى الآن لم يكشف عنها بشكل مقبول، على سبيل المثال كلنا سمعنا جملة "الإخوان ركبوا الثورة" لإنهم لم يعلنوا عن مشاركتهم في التظاهرات من البداية، رغم إن الدكتور عصام العريان خرج في فيديو يوم 23 يناير 2011م وأكد مشاركة الإخوان، إلا أن ظلت هذه تهمة تلقى في وجه الإخوان من كثير من السياسيين ورؤساء الأحزاب والنشطاء، أحدهم كان على التليفزيون يتهم الإخوان، وكنت أشاهد مع عدد من قيادي حزب الحرية والعدالة، فقال أحدهم إن الإخوان تواصلوا مع هذا الشخص قبل يوم 25 يناير وأنه طلب وألح في طلبه أن يشارك الإخوان ولكن لا يعلنوا مشاركتهم بشكل كامل حتى لا تصبح معركة بين السلطة والداخلية والجماعة وهو ما حدث، وحقيقة لا أعلم مدى دقة هذه الرواية.. ولكن لماذا لا يتم تسجيل وسرد وتوثيق ما جرى بشكل احترافي؟
لعل ما نستفيده من تلك الحالة التي لا نعيشها بسبب حلقة من مسلسل، بل إن المسلسل هو مجرد حلقة في ما نمر به منذ عقود، ما نستفيده هو أنه على المعنيين والمهتمين والمتخصصين، خاصة في الإعلام والسينما، أن يبدأوا مشروعاً كاملاً، لا يكتفي بالمقالات فقط، أو الوثائقيات، بل بالمذكرات، والروايات، والأعمال الدرامية والسينمائية، وجلب المبدعين ودعمهم، ليقدموا للشعب وللتاريخ حقيقة ما حدث.. أو على أقل تقدير.. أن تكون "رواتينا للأحداث" موجودة ومتاحة.

تعليقات
إرسال تعليق
مرحباً بك..
يسعدني إبداء رأيك ومقترحاتك..
وأرحب بانتقادك.. فاجعله بناءً.
سأعمل على الرد في أسرع وقت ممكن